الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد قال الله في حق الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]، فهؤلاء خيار الخلق. وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون. وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها. وأما السيئات، أن تلغى ويبطل أثرها. قالوا: وأيضًا، فلوا انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب، لكان أحسن حالًا من الذي لم يرتكب منها شيئًا. وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه. وكيف يكون صاحب السيئات أرجح من لا سيئة له؟ قالوا: وأيضًا فكما أن العبد، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها. فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، لم ننازعكم في هذا. وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثوابًا وجوديًا. واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة، بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة. وهذا إنما يكون في السيئة المحققة. وهي التي قد فعلت ووقعت. فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة. قالوا: ولهذا قال تعالى: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فأضاف السيئات إليهم، لكونهم باشروها واكتسبوها. ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم، لأنها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا: وأيضًا، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم، فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]، وأما ما كان من غير الفاعل، فإنه يجعله من تبديله هو، كما قال تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16]، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم. وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.قالوا: ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل جنة دخولًا الجنة. وآخر أهل النار خروجًا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة» قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة. فإنهم إنما سموا أبدالًا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة، بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات.قالوا: وأيضًا فالجزاء من جنس العمل. فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة، بدلها الله من صحف الحفظة، حسنات جزاء وفاقًا.قالت الطائفة الأولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر، على صحة قولكم، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات، قد عذب عليها في النار، حتى كان آخر أهلها خروجًا منها فهذا قد عوقب على سيئاته. فزال أثرها بالعقوبة. فبدل مكان كل سيئة منها حسنة. وهذا حكم غير ما نحن فيه. فإن الكلام في التائب من السيئات، لا فيمن مات مصرًّا عليها غير تائب. فأين أحدهما من الآخر؟قالوا: وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة، فحق. وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة، التي لولا الحسنة لحلت محلها.قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب. ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها، مقارنًا لكسبهم إياها بفضله؟.قالوا: وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم. فإن الله خالق أفعال العباد. فهو المبدل للسيئات حسنات خلقًا وتكوينًا، وهم المبدلون لها فعلًا وكسبًا.قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال. فهذا حق، وبه نقول، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف، بحسنات جعلت موضعها. فهذا منتهى إقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما. فقد أدلى كل منهما بحجته، وأقام بينته. والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما. فأرشد الله من أعان على هدى، فنال به درجة الداعين إلى الله، القائمين ببيان حججه ودينه. أو عذر طالبًا منفردًا في طريق مطلبه، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق. فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره، وألا يقطع عليه طريقه. فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه، فقد رضي بالدون. وحصل على صفقة المغبون. ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع، فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأوائها وشدتها، فهو والله الفوز المبين، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.فالصواب، إن شاء الله في هذه المسألة، أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة. والحسنة إنما هي أمر وجوديّ يقتضي ثوابًا ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهيّ. وذلك الكف والحبس أمر وجوديّ وهو متعلق الثواب. وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلًا، ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب، لكان مثابًا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ وهذا مما لا يتوهم. وإذا كانت الحسنة لابد أن تكون أمرًا وجوديًا، فالتائب من الذنوب التي عملها، قد قارن كل ذنب منها، ندمًا عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب. وقد محت التوبة أثر الذنب، وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة، قد بدلت تلك السيئة حسنة. وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها، فتوبته منها حسنة حلت مكانها. فهذا معنى التبديل. لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.وقال بعض المفسرين في هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة. وعلى هذا، فقد زال بحمد الله الإشكال. واتضح الصواب. وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.وأما حديث أبي ذر، وإن كان التبديل فيه حق المصرّ الذي عذب على سيئاته، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته. فإن الذنوب التي عذب عليها المصرّ، لما أزال أثرها بالعقوبة، بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها، مع العقوبة، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات. فزوال أثرها بالتوبة النصوح، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة. فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة، حسنات، فلأنْ تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات، أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة. لأن التوبة فعل اختياريّ أتى به العبد طوعًا ومحبة لله وفرقًا منه، وأما العقوبة، فالتكفير بها من جنس التفكير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره، بل يفعل الله. ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره. انتهى كلامه رحمه الله.وقوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي: ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح، فإنه بذلك تائب إلى الله متابًا مرضيًا عنده، مكفرًا للخطايا، محصلًا للثواب. قرره الزمخشري.والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولًا وفعلًا، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح. فليتفطن لمعنى هذا الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان، أو تخشع بأركان، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن. اهـ.
.قال ابن عاشور: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}.هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمان، وهو قسم التخلّي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين.ووَصْفُ النفس ب {التي حرم الله} بيانٌ لحُرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما حكى الله من محاورة ولدَيْ آدم بقوله: {قال لأقتلنّك} [المائدة: 27] الآيات، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله: {التي حرم الله}.وكان قتل النفس متفشيًا في العرب بالعداوات، والغارات، وبالوأْد في كثير من القبائل بناتهم، وبالقتل لفرط الغَيرة، كما قال امرؤ القيس:وقال عنترة: وقوله: {إلا بالحق} المراد به يومئذ: قتل قاتل أحدهم، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة.ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود.ومضى الكلام على الزنا في سورة سبحان.وقد جُمع التخلّي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرّر في ذكر خصال تحلّيهم، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يَدْعُوا مع الله إلهًا آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقًا بالشرك وذلك قتل النفس والزِنا.فجعل ذلك شَبيهَ خصلةٍ واحدة، وجُعل في صلة موصول واحد.وقد يكون تكرير {لا} مجزئًا عن إعادة اسم الموصول وكافيًا في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب، ويؤيدّه ما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أيُّ الذنب أكبر؟ قال: «أن تدعوَ لله نِدًّا وهو خَلَقَك. قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتل ولدك خِيفةَ أن يطْعَم معَك. قلت: ثم أيّ: قال: أن تُزانيَ حليلةَ جارك» فأنزل الله تعالى تصديقها {والذين لا يدعون مع الله إلها آخرًا} إلى {أثامًا}، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله: {غفورًا رحيمًا} [الفرقان: 68 70] قيل نزلت بالمدينة.والإشارة ب {ذلك} إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور، كما تقدم في نظيره آنفًا.والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع، أي من يفعل مجموع الثلاث.ويُعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضًا عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها، وأنَّ البعض أيضًا مراتب، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلقَ آثامًا لأن لُقِيَّ الآثام بُيّن هنا بمضاعفة العذاب والخلودِ فيه.وقد نهضتْ أدلةٌ متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود، مما يقتضي تأويلَ ظواهر الآية.ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته، أي يعذب عذابًا شديدًا وليست لتكرير عذاب مقدر.والآثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوَبال والنَكال، وهو أشد من الإثم، أي يجازى على ذلك سُوءًا لأنها آثام.
|